تلعب السياسة بأقدار الناس، تأخذهم يميناً وشمالاً وإلى كل الاتجاهات، يبدو كذبها واضحاً وتناقضاتها واضحة، لكنهم مع كل ذلك يظلون مشدودين لها بقوة خفية، قوة متأرجحة بين الخوف والرجاء، بين اليأس والأمل، وكلما لاح بصيص نور من بعيد قد ينهي ركام الأزمات الطاحنة التي تطحن حياة البشر هنا وهناك، تشردهم وتسلب طمأنينتهم وتفني أطفالهم ورجالهم وشبابهم، كشر نفر من أهل السياسة ووضعوا العصي في العجلات لتنغرس العربة في الوحل أكثر فلا تدور عجلاتها إلا على طريقة «مكانك راوح»، ذلك لأن الأزمات السياسية الطاحنة التي تطحن هؤلاء البشر تشكل لآخرين الدجاجة التي تبيض ذهباً، ودائماً «مصائب قوم عند قوم فوائد» !
في الفترة الماضية قدمت أكثر من قناة تلفزيونية عربية تقارير - يبدو واضحاً أنها تسريبات استخبارية - حول حقيقة بعض الحركات الفاعلة على ساحات المعارك في سوريا والعراق ولبنان وليبيا ومصر وغيرها من الدول، إن المنتمين لهذه الحركات المسلحة التي تمتلك كماً من السلاح لا ينتهي ومن الذخيرة ما لا يتوقف رغم مرور سنوات على القتال الشرس الدائر على أرض هذه الدول، إن المنتمين لهذه الحركات بحسب التقارير ليسوا سوى سجناء سابقين أطلقت بعض الأنظمة سراحهم ومكنتهم من مخازن السلاح ليعيثوا فساداً في الأرض والبلاد! لماذا ؟ كيف ؟ ببساطة لأن بعض الأنظمة السياسية تحكم بلدانها بعقلية المافيات وزعماء العصابات !
هذه البلاد التي تحترق تحت أقدام أهلها، والتي بلغ الهاربون من جحيم الأوضاع فيها أكثر من نصف السكان، لن تعرف الهدوء والاستقرار لسنوات طويلة قادمة، هذه الأراضي ستتحول الى أراض محروقة كأفضل الاحتمالات، وكأراض محروثة بالعنف ومسكونة بالإرهاب والعصابات كاحتمال طبيعي، وعندها سيصعب الحديث عن أوطان وتنمية وتطور ومصالح إنسانية، عندها سيصعب على السياسة معالجة مخلفاتها البشعة التي راكمتها، وسيدفع الإنسان البسيط الذي لا ناقة له ولا جمل ولا يد ولا أصبع الثمن كاملاً، سيدفعه في البداية وفي النهاية أيضا !
لكن مالذي يجعل الإنسان مستلباً هكذا إزاء السياسة، إزاء نفوذها وسطوتها وجبروتها، مالذي يجعل النااس بائسين لهذا الحد إزاء التصدي لما يعبث بهم وبحياتهم وأقواتهم وأطفالهم ؟ ماذا غير الجوع والفقر والجهل والضعف؟ ماذا غير القوة التي تتمرس بها السياسة حتما، إذا فإن السبيل الوحيد لمنع هذا العبث وليكون الإنسان قويا باتجاه صناعة قراره ومسؤولا عن سيرورة حياته أن يكون قويا، لكن ليس بمعنى القوة التي تدخله في معركة مع السياسة بل بمعنى القوة التي تجعل السياسة في وضع السيطرة وعدم الغلو واللامبالاة تجاه حياة الناس، فلو أن هذه الأنظمة التي تطحن شعوبها الآن وجدت من يتصدى لها، ولا يعطيها فرصة التغول والتضخم بهذا الشكل لما كان الحال على ما نرى، لو أن هؤلاء الناس قد تحملوا مسؤولية انفسهم وطالبوا بحقوقهم في التعليم والعمل والوظيفة والكرامة والحياة الحقيقية وثروات بلدانهم لما وضعت الأنظمة أقدامها فوق أعناقهم، لو أنهم لم يسمحوا باستمرار الفاسق والفاسد والمبتذل والمتكسب ولم يصفقوا له ولم يزمروا ويتحولوا لفرق من المداحين والطبالين لما كان حالهم بهذا الشكل، نقول ذلك حتى لا نلقي اللوم كله على السياسة ونظريات المؤامرة التي تخلي الشعوب من مسؤولياتها تجاه مصائرها !