في 30 كانون الأول/ ديسمبر وقّع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس على عشرين اتفاقية دولية مختلفة، بما فيها "نظام روما الأساسي" لـ «المحكمة الجنائية الدولية». ويشير اسم هذا "النظام الأساسي" إلى المؤتمر الذي عُقد عام 1998 والذي أنشأ المحكمة القائمة على أساس المعاهدة، والتي بدأت عملها عام 2002.
ومن حيث المبدأ، تسمح هذه الخطوة - التي اتخذتها السلطة الفلسطينية - لـ «المحكمة الجنائية الدولية» بفرض سلطتها القضائية على التطورات المستقبلية في الضفة الغربية وقطاع غزة، وتخول أي دولة من الدول الموقعة على "نظام روما الأساسي"، والتي تشمل حالياً 160 دولة، المطالبة بمحاكمة إسرائيل بتهمة ارتكابها جرائم حرب. وفي هذا الإطار، أوضح مسؤولون فلسطينيون أنهم يريدون من «المحكمة الجنائية الدولية» التحقيق في سياسات الاستيطان الإسرائيلية. وعند إتمام مثل هذه التحقيقات، فسيعود القرار إلى المدعي العام لـ «المحكمة الجنائية الدولية»، المحامية الغامبية فاتو بنسودا، حول المضي قدماً نحو إعلاء قضايا فعلية ضد مسؤولين إسرائيليين أم لا.
وتأتي هذه الخطوة التي اتخذها عباس في أعقاب فشله في الأسبوع الماضي في حشد الأصوات اللازمة لموافقة مجلس الأمن الدولي على إقامة دولة فلسطينية. وعلى الرغم من أن هذا الفشل أدى إلى تفادي الفيتو الأمريكي الذي كان يحتمل أن يكون مثيراً للجدل، إلا أن التحوّل نحو مسار «المحكمة الجنائية الدولية» يطرح مشاكل شائكة أخرى.
علاقات عباس ونتنياهو إلى حضيض جديد
في حين أن العلاقة بين إسرائيل والفلسطينيين لم تعرف فعلياً عدداً كبيراً من التحسنات في السنوات الأخيرة، يمكن القول بأن التوقيع على "نظام روما الأساسي" يبعث بالدبلوماسية إلى أدنى مستوى لها حد الآن، على الأقل في ظل القيادة الحالية. ولقد تم تصميم «المحكمة الجنائية الدولية» للتعامل مع جرائم الحرب المتعمدة، مثل اعتماد مسؤولي الدولة لسياسات الإبادة الجماعية، لذا لن يتقبل الإسرائيليون برحابة صدر أن يُصبغوا بهذه الحلّة إذا تم رفع قضايا ضد قادتهم.
خطوات مضادة وطريق طويل الأمد إلى المستقبل
من غير المرجح أن يؤدي التوقيع على "نظام روما الأساسي" إلى انتصارات قانونية فلسطينية على المدى القصير وذلك لأسباب متعددة، وخاصة لأن الأطراف الأخرى ستتخذ على الأرجح خطوات مضادة. على سبيل المثال، ستطلب الولايات المتحدة وكندا وربما دول أخرى على الأرجح من الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، وهو جهة إيداع التواقيع لـ "نظام روما الأساسي"، أن يحث على قطع الطريق أمام تحرك السلطة الفلسطينية، وربما يكون ذلك من خلال التشكيك في الحق القانوني للسلطة الفلسطينية في التوقيع. وقد يصدر الكونغرس الأميركي قرارات من جهته أيضاً، ولكن من غير الواضح ما التأثير الذي سينتج عنها. فقد وقّعت الولايات المتحدة (إلى جانب روسيا، وإسرائيل، ونحو ثلاثين بلداً آخر) على "نظام روما الأساسي"، إلا أنها لم تصادق عليه، وهذا يعني أنها ليست عضواً في «المحكمة الجنائية الدولية»، ولذلك لا يستطيع الكونغرس أن يهدد بالامتناع عن تمويل المحكمة.
كما وتُطرح أيضاً مسألة قانونية حول تاريخ بدء سلطة «المحكمة الجنائية الدولية»، إذا ما تمت الموافقة عليها. لكن من الواضح أن «المحكمة الجنائية» ستتمتع بتلك السلطة القانونية بعد انتهاء السلطة الفلسطينية من عملية تُعرف بالانضمام، والتي من المرجح أن تنتهي في آذار/ مارس أو نيسان/ إبريل.
ومع ذلك، لا يزال من غير المؤكد ما إذا كانت «المحكمة الجنائية الدولية» تريد حتى الخوض في مياه النزاع الإسرائيلي الفلسطيني العكرة. فقد شعرت المحكمة مؤخراً بأنها تتعرض للهجوم، وذلك مع انهيار قضيتها ضد الرئيس الكيني أوهورو كينياتا خلال الشهر الماضي. كما وأن الصراع الإسرائيلي الفلسطيني يشتهر بقدرة تحمله الطويلة وبطابعه المشحون وبتعقيده. فعلى سبيل المثال، إذا حققت «المحكمة الجنائية الدولية» في موضوع المستوطنات في الضفة الغربية، فالسؤال الذي يطرح نفسه: هل ستكون «المحكمة»على استعداد لاتخاذ موقف واضح وترسيم الحدود بين إسرائيل والدولة الفلسطينية؟ وهل ستشمل هذه الحدود القدس الشرقية؟
المحصلة
لقد بدأت التداعيات السياسية لتحرك رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس تجاه «المحكمة الجنائية الدولية» لتوها بالارتداد، وذلك فيما تنحدر علاقاته مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو أكثر من أي وقت مضى؛ ويبدو أن هذا التطور يشكل انفتاح ساحة جديدة للصراع بين إسرائيل والفلسطينيين. وعلى المدى القصير، سيؤدي تدويل الصراع إلى نتيجة واحدة مؤكدة فقط: أن احتمال توصل الإسرائيليين والفلسطينيين إلى حل خلافاتهم بنفسهم سيكون أبعد من أي وقت مضى.