لأكثر من 40 عاما وتحتفل مصر حكومة وشعبا وجيشا وسورية أيضا إلى جانب الكثيرين من الدول العربية وخاصة الخليجية القريبة من الدولة المصرية بما يسمونه "نصر" أكتوبر على إسرائيل.
ولأن النصر له آباء وأدعياء كثر، فقد ادعى كثيرون أن لهم دور "كبير" و "عظيم" في إحراز هذا "النصر"، وراحت كل دولة ومسؤول عربي يعدد ويوثق مساهماته في هذه الحرب، بل كانت لبعضهم فرصة لاكتساب "شرعية" أمام شعوبهم. فهل تعتبر حرب أكتوبر عام 1973 نصرا عسكريا للعرب ولمصر وسوريا، وهل حققت الأهداف منها، وما هي الأهداف المعلنة لها، أم أن المعركة لم تكن سوى أكثر من "مخطط" وضعت بعدها حرب العرب الرسميين مع إسرائيل أوزارها إلى الأبد رغم أن أسباب تلك الحرب لا تزال قائمة حتى وإن عادت سيناء نظريا لمصر .
فلأربعين عاما ويعيش الجيش المصري على ما يسميه "نصر أكتوبر"، ولأنه جيش "منتصر" فهو الأحق بأن يحمي ويحكم ويدير وينقلب، وكثير من جيوش المنطقة على هذه العقيدة العسكرية. و لا تزال قطاعات واسعة من الشعوب العربية تعتقد أن هناك بالفعل "نصرا مؤزرا" على إسرائيل رغم أن شيئا لم يتحقق.
معايير الانتصار والهزيمة
بصورة عامة لم يكن هدف الحرب التي شنها الجيش المصري والسوري آنذاك تحرير الأرض، وإنما تحسين شروط التفاوض على الأرض، الأرض بمعناها الحرفي وأرض التفاوض فيما بعد كما انطلقت مفاوضات كامب ديفيد.
إذا كان مقياس النصر بعدد أمتار الأرض المحررة، فإن النصر لم يكن حليف الجيشين، لا بل إن الجيش السوري خسر المزيد من الأراضي لأنه، وبعد أيّام فقط من الحرب، أصبحت دمشق في مرمى مدفعيّة العدوّ، كما أن الجيش المصري تعرّض لحصار مُكبّل. لم يُحرّر الجيشان أراضيهما المُحتلّة، وهذا هو العنصر الأساسي في الفوز بالمعركة.
أم نقيس الأمر بعدد الخسائر وعقد مقارنة بين خسائرنا وخسائرهم؟ لو كان الأمر كذلك، لكانت المقارنة في غير مصلحة العرب. ليس هناك حتى الساعة تعداد تفصيلي دقيق لعدد خسائر الجيشين السوري والمصري في تلك الحرب، ربما لأن كل ما يحيط بحرب تشرين في الإعلام المصري والسوري (والعربي عامّة) يدخل في باب الدعاية وإنهاض المعنويّات على حساب الحقائق والأرقام؟ والخسائر في السلاح والعتاد هي مثلها مثل الخسائر البشريّة. وأعلن الناطق الرسمي باسم الجيش الإسرائيلي عبر تغريدة مؤخرا أن إسرائيل هي التي انتصرت، لأن عدد قتلى جيشها بلغ نحو ألفي عنصر، بينما عدد قتلى الجيش المصري ناهز العشرة آلاف.
كما لم تقدّم حرب تشرين أي مساهمة فعليّة ميدانيّة في تحرير فلسطين، ولم يسمح الجيشان بإطلاق عمليّات مقاومة فلسطينيّة لرفد المجهود الحربي. على العكس، ما إن عُقدت اتفاقات وقف النار حتى سارع النظامان إلى فرض رقابة قمعيّة صارمة على تحرّك المقاومين الفلسطينين.
هل يُقاس الفشل أو النجاح بالقدرة على إرباك العدوّ، لقد تم إرباك العدو بالفعل ومباغتته، ولكن عاد واستدرك وحشد قوّات إضافيّة، وعكس الوضع الميداني في جبهتين وبعد يومين أو ثلاثة فقط، وبدعم أميركي غير مسبوق.
نتائج الحرب
من المفهوم أن حروب ما بعد الحرب العالمية الثانية لا يوجد فيها دول مهزومة تماما أو منتصرة تماما، بمعنى أنه لا توجد معركة يمكن لعدو أن يفرض على عدوه شروطه، ولكن هناك هزيمة أو انتصار بالنقاط لا بالضربة القاضية. وعليه فإن النقاط التي جمعها العرب في حرب أكتوبر لم تكن كافية ولا حاسمة ولم يتم الحفاظ على زخمها طويلا لا أثناء الحرب ولا بعدها بيحث يتم ترجمتها إلى إنجازات سياسية.
فبعد هذه الحرب دخلت مصر عصر التسوية مع إسرائيل وخرجت من الصراع ما جعل إسرائيل تأمن جبهة طويلة على حدودها وتتفرغ لاحتلال لبنان وتصفية المقاومة الفلسطينية فيها. كما ظل نظام البعث في سوريا ملتزما الهدوء منذ تلك الحرب وحتى الآن في مواجهة إسرائيل قبل أن يتورط منذ نحو 3 سنوات في قتل شعبه.
إن حرب أكتوبر لم تؤد إلا إلى عملية تحريك مواقع ومواقف، اعتبرها الكاتب المصري محمد حسنين هيكل أنها حرب كانت معدة الأهداف ومتفق عليها مسبقا بين مصر وإسرائيل ومتفق على ميدان المعركة وعلى عدد الجنود والقطاعات العسكرية المشاركة فيها، وحتى على حجم الخسائر، وذلك حتى يقبل الشعب المصري التسوية مع إسرائيل من موقف القوة لا من موقف الهزيمة بعد حرب 1967.
مهما يكن من تحليلات أو حقائق حول حرب أكتوبر، فإن ما حققته لا يستحق أن يظل فاتورة مفتوحة تسددها الجيوش من حياة شعوبها وتجبي منها ثمن نصر لم تحققه وأرض لم تحررها، وكأن المقصود بهذه الحرب هو إبقاء الشعوب تحت "فضل" هذه الجيوش التي لا تزال تعتبر نفسها بأنها الأجدر في كل شيء، لأنها "انتصرت" ، وحتى لو كان هذا صحيح، فإنه نصر يتيم لا قبله ولا بعده أي إنجاز، يجعل الأمة فخورة بإنجازات هذه الجيوش.